
عندما عرفت أن الرواية القادمة للكاتب العراقي (أحمد خيري العمري) تحمل اسم “شيفرة بلال”، أول شعور راودني هو الضيق…
الانطباع المبدئي الذي قفز في ذهني فورًا، هو أن الرواية ستكون معالجة أخرى لسيرة الصحابي العظيم ومؤذن الرسول (بلال بن رباح) رضي الله عنه. ما يعني تكرار المكرر، باعتبار أن قصة هذا الصحابي الجليل تحديدًا تم تسليط الضوء عليها من كافة الزوايا تقريبًا، ولا أتصوّر أنه من الممكن ان يُقال أكثر مما قيل.
دعك أنني في السنوات الاخيرة، أصبحت لا أميل أبدًا إلى الروايات التاريخية التي تناقش رموزًا دينية. لا أعرف لذلك سببًا واضحًا، ولكن يبدو أن التشبع بشيء ما في مرحلة الطفولة يجعلك تكتفي منه في بقية قراءاتك طوال عمرك.
ثم أن تأتي هذه الرواية بهذا الاسم، في وقت انتشر فيه على كافة وسائل التواصل الاجتماعي منشورات: “كن مثل بلال”، والتي استمرّت شهورًا طويلة في مطلع هذا العام، كواحدة من أكثر ظواهر السوشيال ميديا سخافة.
كلها عوامل جعلتني أشعر بضيق حقيقي ممتزج ببعض القلق بخصوص الرواية الجديدة للأديب العراقي…
شيفرة بلال… قدر هائل من التصوّرات المسبقة المتحفّزة جالت في ذهني وأنا أتأمل عنوان الرواية التي كنت محظوظًا أنها وجدت الطريق إلى يديّ قبل النشر.
تلقائيًا… بدأت أضبط إشارات عقلي على بعض المشاهد التراثية المعتادة، وأتذكر بعض المواقف من السيرة النبوية التي قرأتها كثيرًا.
رواية أخرى تناقش جوانبًا من حياة الصحابي العظيم بلال بن رباح رضي الله عنه.
سيكون لدينا الكثير من العرب، والصحراء، وقريش، وبني عبد المُطّلب، وشِعْب ابن هاشم، والوليد ابن المغيرة، ويثرب… و…… ونيويورك!
أجواء نيويوركيّة كاملة في مطلع الرواية، تأخذك بعيدًا إلى تفاصيل دقيقة من نمط الحياة الأمريكية، بكل جوانبها الثقافية والبيئية. الأمطار، السماء الملبّدة بالغيوم، وحتى طريقة التعبيرات التي تشعر أنها تماهت تمامًا مع طبيعة الحياة الامريكية.
وبأسلوب قصصي متسلسل مكتوب بعناية، ومع الغوص التدريجي في أحداث الرواية، تجد نفسك بين أحداث رواية ثلاثية الأبعاد، لثلاثة أشخاص: بلال الصغير… وأمجد المتشكك… ولاتيشا المكلومة…
كل منهم يرصد الوجود وفقًا لأفكاره ولطريقة حياته ولفهمه وآلامه ومشاكله، بطريقة شديدة العمق في التحليل، تعبّر عن القارئ بالضبط.
ثم يأتي، العمود الفقري للرواية، الصحابي بلال الحبشي…
وهنا فقط، مع توغّلي أكثر في احداث الرواية، أدركت تمامًا تفرّد الطرح الذي انا بصدده، ليس فقط من باب المعالجة. وإنما أيضًا من الدقة في اختيار النموذج المعياري الذي يُرجع إليه بشكل مستمر طوال أحداث الرواية.
ليست رواية دينية / تاريخية إذن، تعالج سيرة الصحابي بمنظور مختلف كما كنت أعتقد…
بل رواية إنسانية / وجودية، تستهدف ما هو أكثر بكثير جدًا (بمليون مرة) مما قد تظن أنها تحمله من عنوانها.
ستقابل نفسك كثيرًا جدًا في هذه الرواية، بهيئتك الحقيقية الكاملة. تعرية كاملة لكل الأقنعة الزائفة التي تستخدمها مع من حولك طوال الوقت، وربما تستخدمها مع نفسك أيضًا.
لن تجد فيها شخصيات خيالية. هي فقط مجرّد وجوه اعتبارية تعبّر عن أوجه شخصيتك أنت بشكل كامل لا لبس فيه. لن يمر عليك وقتًا طويل أصلًا لتفهم هذا المعنى، بمجرد الخوض في أبعاد الرواية.
ستجد أن بلال الصغير المريض هو أنت تماماً… تعبير مُطلق عما تشعر به ويجول في صدرك طوال الوقت من ألم مختلط بالبراءة وعدم الفهم…
بمرور الوقت ستتأكد أن (أمجد) هو أكثر معبّر عن حالتك الآن، وأنك تمرّ في حياتك – ربما كل دقيقة – بما يمرّ به من تساؤلات وحيرة وجودية. الصراع الحاد بين الجمود العلمي، والارتباك في رصد الحياة، وعدم الفهم، ومأزق العلم والدين…
حالة (أمجد) تحديدًا هي الحالة الأكثر وضوحًا وسيطرة وإغراقًا في الارتباك والرصد والتحليل.
وأحياناً… وربما كثيراً، ستجد نفسك في نفس موضع (لاتشيا)…
ستجد أن بلال الصغير المريض هو أنت تمامًا. تعبير مُطلق عما تشعر به ويجول في صدرك طوال الوقت من ألم مختلط بالبراءة وعدم الفهم.
كل صفحة من الرواية، تحمل داخلها علامات الاستفهام الممزوجة بألم هائل…
علامات الاستفهام المرتبطة بإلحاحك الدائم – الطبيعي – لمعرفة ما يحدث لك، ويحدث لمن هم حولك… حتى لو لم يكن لديك القدرة على الجهر بهذا الشعور، لاعتبارات دينية واجتماعية وثقافية تحيط بك طوال الوقت…
- أين الله؟… ما كل هذا الشر؟… ما كل هذا العذاب؟
- لماذا مرض ابني / أبي / أخي بالتحديد، بينما الآخرين يبدو أنهم بخير؟!
- لماذا أصابني ما أصابني؟
- لماذا لا يتدخل الله؟
- أين الطريق الصحيح؟… وإذا كان صحيحاً، لماذا لا يبدو صحيحاً دائماً… لماذا يبدو ساذجاً أحمقاً في أوقات كثيرة؟
- لماذا كل هذه الكراهية؟
- لماذا تجعلنا جيناتنا نمرّ بكل هذا العذاب؟… وواقعنا نمر بكل هذه التناقضات؟
- لماذا هذا الاستعباد بين البشر… الاستعباد في الظروف… الاستعباد في الفهم… الاستعباد في الأوجاع؟
- لماذا عندما تصرخ طوال الليل طلباً للمساعدة والفهم، وتنظر إلى السماء منتظراً أية علامة… تبدو السماء هادئة للغاية…
- لماذا لا يبدو أي شيء منطقي… وعندما يبدو منطقياً، لماذا نجد أنفسنا نحاربه!
لماذا كل هذا التناقض… والألم؟!

# أطرق برأسه ونظر إلى الكأس مجدداً، هذه المرة رفعه إلى شفتيه وشرب الباقي دفعة واحدة…ثم قال: وهل تعرف أنهم قتلوا مصطفى العقاد أيضاً؟ أولئك الذين يتحدثون باسم الدين؟خيل لي أني أرى ظل دمعة في عينيه.نظر لي وقال بتصميم وعيناه تلتمعان: لكن الله موجود…
# قلت له، لهذا الإله الذي لا أؤمن بوجوده: ساعدني… ساعدني.لا أعرف كيف قلتها. لكني قلتها. سمعت صوتي وأنا أقولها.
أخيراً… أفضل اقتباس جاء على لسان بلال الصغير، متحدثاً عن بلال الحبشي:
# اكتشفت أنه ربما كان لكل شيء في هذه الحياة شيفرة. المرض، عندما نشأ في داخلي ونما، كان له شيفرةيسمونها الشيفرة الجينية.للحياة نفسها شيفرة، للموت شيفرة، للسرطان شيفرة.لكل منا شيفرة.بينما أبحث عن اسمي، وجدت ذلك. تداخلت حياتي مع شخص آخر، ولد وعاش ومات قبل قرون في قارة أخرى. سميت باسمه، ووجدت قصته، تفك الشيفرات التي تحيط بي في حياتي.حياته جعلت حياتي تختلف.

Comment
ردحذفTest2
حذف